
الدرر الشامية
25 يونيو 2016
في خضم حملته الانتخابية عام ١٩٩٢، أطلق الرئيس الأمريكي السابق بيل كلنتون شعاره المشهور "إنه الاقتصاد يا أحمق" الذي تحول لاحقًا إلى جملة غدت أيقونة في الثقافة السياسية في أمريكا.
تمكن كلنتون عن طريق هذا الشعار من تركيز النقاش بشكل شبه كلي حول موضوع الاقتصاد حصرًا، في لحظة كانت تعاني فيها الولايات المتحدة من حالة كساد اقتصادي قاسٍ أرهق الطبقة الفقيرة والمتوسطة، وهذا الشعار مَهَّد لفوز تاريخي لكلنتون على جورج بوش الأب.
لا شك أن استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الذي سُمي الـ"بريكزيت" يشكل محطة فاصلة في التاريخ الحديث لأوروبا وربما للغرب بشكل عام، ودون الخوض في الخلفية التاريخية والفكرية للاتحاد الأوروبي وعلاقة بريطانيا المتأرجحة والرمادية به، فإن حدثًا من هذا العيار يحتاج وقفة تأمل ونظرة تفحص معمقة؛ لما فيه من دروس وعبر تتجاوز الحدود الجغرافية والسياسية للحدث، وتلامس واقعنا السوري الثوري من حيث لا نعلم.
يزعم البعض أن إجراء الاستفتاء كان حدثًا لا مفر منه نظرًا لحالة الاحتقان المتراكمة في المجتمع البريطاني إزاء ظاهرة الهجرة وتردي الأوضاع الاقتصادية، بينما يرى البعض الآخر أن الاستفتاء كان هروبًا إلى الأمام من قِبل رئيس الوزراء ديفيد كاميرون لحل المشاكل الداخلية لحزبه ومواجهة "مزاودات" حزب استقلال المملكة المتحدة المتطرف الذي بدأ في السنوات الأخيرة بسحب حاضنة الحزب المحافظ اعتمادًا على خطاب يميني قومي شعبوي. وبغض النظر عن الدوافع إلا أن نجاح حملة الخروج لها دلالات عميقة وأسباب لابد من التفكر بها.
رغم حملة الترهيب التي قادها رئيس الوزراء البريطاني مع أهم الشخصيات القيادية الرسمية في البلاد بما فيهم حاكم بنك إنجلترا، التي حذرت من المخاطر بل والكوارث الاقتصادية الحتمية لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وقد بدأ يتحقق بعضها كتهاوي سعر الجنيه الإسترليني، إلا أن هذا الخطاب لم يجد صدى في القواعد الشعبية التي فقدت الثقة في الطبقة السياسية الحاكمة من مختلف التيارات والأحزاب التي انفصلت عن واقع البلاد، وكشفت نتائج التصويت على أن الأرياف بمختلف توجهاتها السياسية صوتت للخروج، في حين أن الطبقات النخبوية في المدن الكبرى صوتت للبقاء في أوروبا، في صدام مثير بين ثقافة محافظة تقليدية وأخرى ليبرالية تقدمية، حتى أن بعض المحللين يؤكدون أن المشكلة لم تكن في عدم أخذ التحذيرات على محمل الجد، بل إن شريحة كبيرة من الشعب كانت مستعدة لدفع الثمن.
لم يكن الصراع طبقيًّا فحسب بل كان صراع أجيال؛ حيث رجّح صوت المسنين من أبناء الجيل القديم الذي وُلد وترعرع في بريطانيا ما قبل الاتحاد الأوروبي الكفة لصالح الخروج و"استعادة التحكم بمصير البلد"، وكان هذا شعار حملة الـ"بريكزيت"، الذي خاطب بشكل مباشر عواطف الشعب البريطاني.
بالإضافة إلى ذلك، كان هناك صراعٌ بين الهوية العليا والهويات الفرعية في أمة واحدة أثبت الضرورةَ الحيوية لوجود أغلبية تحمل قيم هذه الهوية العليا التي تنضوي تحتها هويات فرعية.
لقد كشف التصويت أن إنجلترا هي حاملة وحامية الهوية البريطانية عندما وُضع مستقبل الهوية على المحك، وأن أصحاب الهويات الفرعية الأخرى لم يترددوا في مناقشة فكرة الانفصال عن الدولة الأم عندما تعارضت نتائج التصويت مع توجهاتهم ومصالحهم، ولعل الخطر الحقيقي والواقعي بتفكك بريطانيا هو الذي سيدفع أنصار الخروج وأنصار البقاء في أوروبا للتوصل إلى حل توافقي وسط إشارات واضحة ومتفاوتة تأتي من اسكتلندا وأيرلندا الشمالية حول إجراء استفتاء شعبي لتقرير مصير علاقتهم مع بريطانيا.
ولعل البعد الآخر "وربما الأعمق" الذي لم تتم مناقشته بسبب تسارع الأحداث وهول الصدمة هو البعد الفكري والدستوري لما جرى.
لا شك أن عملية التصويت بهذه الطريقة لقرار مصيري سلط الأضواء على عيوب ونواقصَ في الديمقراطية ناقشها مفكرون غربيون من عهد أفلاطون إلى نيتشه، فقد حُسم قرار تاريخي بناء على تصويت عاطفي لم يُبنَ على معلومات دقيقة أو أسس علمية، وبفارق ضئيل جدًّا مع معارضيه لا يتجاوز الـ٢%، ينذر بحالة انشقاق مستقبلية في المجتمع البريطاني.
نقول هذا مع تأكيدنا على أن فكرة "السلطان للأمة" لتتمكن من اختيار قاداتها وممثليها ولإدارة شؤونها؛ هي الفكرة الصحيحة وإن فشلت الآليات في هذه الحالة.
إن الخطاب الشعبوي والمتطرف إلى درجة كبيرة استثمر حالة الاحتقان العميقة في المجتمع البريطاني عامة والإنجليزي خاصة، وهو مجتمع حاول التعامل مع الظواهر الاجتماعية المرتبطة بالهجرة وما نتج عنها من تعدد الأعراق والأديان والثقافات عن طريق القوانين والشعارات بدلًا من التربية والثقافة، هذا النموذج من المجتمع نجح إلى درجة كبيرة في المدن الكبرى؛ حيث حصل هذا التغير الثقافي، إلا أنه فشل في الأرياف وبقي الاحتقان دفينًا ينتظر المحفز لظهوره على السطح. هذا الخطاب شرعن إلى درجة كبيرة الكراهية والعنصرية والزينوفوبيا.
رغم أنه -في نفس الوقت- كان خطابًا جامعًا ابتعد عن النخبوية وركز على الهوية وعلى المشاعر الحقيقية لأوسع شريحة ممكنة من المجتمع.
لذا فليس من المستغرب أن نرى المرشح الجمهوري دونالد ترامب يبارك خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فبالنسبة له يُعد ما حصل في بريطانيا هو نموذج مصغر وتجربة ناجحة لما يحاول تطبيقه وتحقيقه في أمريكا وقد قطع فيه شوطًا كبيرًا حتى الآن، فإذا كان شعار "البريكزيت" هو "استعادة التحكم بمصير البلد" فشعار حملة ترامب المتمثل بـ"استعادة عظمة أمريكا" لا يختلف عنه في الفحوى أو الرسالة أو في القدرة على الحشد.
لسنا بصدد تقييم قرار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي فهذا قرار يخصهم، ولسنا بصدد نقد النموذج الاجتماعي في بلدهم فلا شك أن بريطانيا تمثل أحد أكثر الأنظمة السياسية نضوجًا وتطورًا في العالم، وحققت أعلى درجات الانسجام الاجتماعي في مدنها الكبرى مقارنة بمجتمعات أخرى مشابهة لها، ولكن ما يهمنا هو الدروس المستفادة من هذه التجربة السياسية والاجتماعية.
خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لن يكون الأخير، بل سيشكل محفزًا لباقي الأحزاب والتيارات اليمينية في أوروبا لأن تخطوَ في نفس الاتجاه، وهذا الأمر بدأ منذ سنوات، فعلى الرغم من الإحباط والقلق الشديدين في الخطاب الرسمي لحكومات الاتحاد الأوروبي إلا أن ردات الفعل من التيارات اليمينية كانت إيجابية للغاية، بل وباركت الخطوة واعتبرتها سابقة تؤكد صحة الفكرة.
أوروبا مقبلة على مرحلة حساسة للغاية، تُهدد بعودة الهويات الوطنية والفرعية على حساب الهوية الجامعة وسط صعود قوي لليمين المحافظ والشعبوية المتطرفة، وتراجع التيار الديمقراطي الليبرالي، وهذا ما سيدفع ثمنه اللاجئون السوريون الذين تحولوا إلى "بوستر" الحملة الإعلامية لحزب استقلال المملكة المتحدة وحملة الـ"البريكزت" ضد المهاجرين الذين يُحمَّلون في حالات الحرب والكساد الاقتصادي مسؤولية كافة مصائب البلد، هؤلاء اللاجئون الذين فقدوا في بريطانيا بمقتل عضوة البرلمان جو كوكس على يد مجنون متطرف أكبر محامٍ عن حقوقهم.
لقد ثبت أن الخطاب الشعبوي لا يمكن التفوق عليه مهما كان الخطاب النخبوي منمقًا ومنطقيًّا، ولعل الـ"بريكزيت" سيُذكر في التاريخ كإحدى الحالات النادرة التي هُزم به فيها خطاب الاقتصاد والترهيب من القفز إلى المجهول، ولكنه في نفس الوقت أثبت أن الهوية ومنظومة القيم المرتبطة بها هي أقوى محرك للشعوب.
لقد قدم الـ"بريكزيت" نموذجًا استثنائيًّا في خطاب الشعوب وأعاد إلى الواجهة أهمية القائد والشخصية "الكاريزمية" لاستقطاب الجماهير وتجسيد الفكرة، كل هذه العناصر غائبة -حاليًّا- من الخطاب الثوري والمنظومة الفكرية للثورة السورية.
الثورة باتت تحتاج بصورة عاجلة جدًّا إلى بلورة منظومة فكرية ينبثق عنها خطاب جامع واضح، يتجنب النخبوية والفصائلية والتحزب الفكري والسياسي، خطاب قادر على حشد الأغلبية السنية وكل من أراد أن يعمل لصالح الثورة والبلد، ومع التدهور المتوقع للظروف المعيشية والمعنوية للسوريين اللاجئين في الغرب والتضييق عليهم، فإن توفير مناطق آمنة في سوريا وتحقيق تقدم عسكري حقيقي أصبح ضرورة مستعجلة لوقف تهجير السوريين ومنع تحولهم إلى شعب بلا وطن. سوريا تحتاج شعبها الثائر، نعم، ولكن شعب سوريا أيضًا بات بحاجة إلى وطنه، نحن أيضًا نحتاج "استعادة التحكم بمصير البلد" و"استعادة عظمة سوريا"، والتحدي الحقيقي هو في طرح مشروع ثوري جامع يربط السوريين ببلدهم ويساعدهم في نفس الوقت على تحريرها واسترجاعها. كل هذه النقاط هي دروس وواجبات مستعجلة لقيادات الثورة العسكرية والسياسية على حد سواء.
إن كانت الهوية بالنسبة لبلد مستقر سياسيًّا ومزدهر اقتصاديًّا كبريطانيا قضية مصيرية ومحورية، فما بالكم ببلد كسوريا يمر بمخاض عسير يُنتظر منه أن تولد أمة جديدة بهوية ومنظومة قيم واضحة.
الشعب السوري لم يخرج في ثورته بسبب الجوع أو صراع طبقي اجتماعي، بل خرج طلبًا لحريته، حريته التي ستسمح له بالعيش الكريم وبتفعيل هويته المغيبة طوال عقود: الهوية الإسلامية والعربية.
الثورة تحتاج إلى شعار يعكس روح الثورة ومنطلقها وسبب استمرارها، ويُوضِّحُ بصورة لا تحتمل اللبس أننا أمام معركة بقاء ولسنا في تنافس على نفوذ سياسي أو مكاسب اقتصادية.
وفي حين تستعر المبادرات والنظريات حول ما يريده الشعب السوري الثائر وحول كيفية حل الأزمة السورية وتكثر الأحاديث حول الفيدرالية والبرلمانية والتفاوض مع النظام وتأمين الحد الأدنى من الشروط الإنسانية للمحاصَرين، يتناسى الجميع جوهر وحقيقة الصراع: إنها الحرية... إنها الهوية يا أحمق.
بقلم:
أ.لبيب النحاس
http://eldorar.com/node/99815