top of page

من غيرنيكا إلى سيربرنيتسا إلى حلب


الدرر الشامية

24 سبتمبر 2016


“هؤلاء الذين لا يتذكرون الماضي، مكتوب عليهم أن يعيدوه”. لعلها من أشهر أقوال الفيلسوف الأمريكي-الإسباني جورج “خورخي” سانتايانا. قد يتبادر للبعض أننا نقصد الجماعات الإسلامية في واقعنا الأليم، وإصرارها الغريب على تكرار أخطاء وكوارث الماضي في كل تجربة تقتحمها، ولكن المقام أوسع من ذلك.

عندما استعصت بلدة غيرنيكا والتي كانت مفتاح إقليم الباسك في شمال إسبانيا أثناء الحرب الأهلية على قوات “الكاوديو” (زعيم الأمة) فرانكو، قام فرانكو بطلب دعم ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية لقصف البلدة، وبالفعل في 26 أبريل 1937 قامت القوات الجوية لحلفاء فرانكو بقصف غيرنيكا بوحشية وتدميرها بشكل شبه كامل، مؤسسين بذلك لسابقة في التاريخ البشري بالقصف الجوي المتعمد والمباشر للمدنيين العزل بهدف كسر معنوياتهم وإجبارهم على الاستسلام. سقطت غيرنيكا، وحكم فرانكو إسبانيا إلى مماته.

وبعد أكثر من حوالي نصف قرن من مجزرة غيرنيكا، وفي خضم حرب البلقان التي تحمل في صفحاتها دروسًا وعِبَرًا عظيمة للثورة السورية، وبعد أن أعلنت الأمم المتحدة مدينة سيربرنيتسا السنية المسلمة مدينة آمنة وبحماية الأمم المتحدة، قامت قوات الصرب باجتياح المدينة تحت نظر حوالي 400 جندي من الكتيبة الهولاندية التابعة للأمم المتحدة والتي يفترض أن مهمتها حماية المدينة بعد أن قام أهلها بتسليم سلاحهم بناء على تعهدات الأمم المتحدة.

كانت المحصلة أكثر من 8000 قتيل من الذكور، وتهجير لحوالي 30 ألف امرأة وطفل، بعد حوالي عشر سنوات من هذه الجريمة أعلنت المحكمة الجنائية الدولية أن ما حصل في سيربرنيتسا هو عملية تطهير عرقي متعمد، وقال كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك: إن ما حدث هو “أسوأ جريمة على الأراضي الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية” وإن الأمم المتحدة ارتكبت أخطاء جسيمة “نتجت عن فلسفة الحياد”.

من الجدير بالذكر أن روسيا استعملت حق الفيتو عام 2015 في مجلس الأمن لمنع وصف ماحدث في سيربرنيتسا على أنها جريمة حرب وتطهير عرقي.

ما يحدث في سوريا هو جريمة العصر دون أي شك، وحلب هي عنوانها العريض، فلا يُذكر في التاريخ الحديث أن ارتكب هذا الكمّ المروع من جرائم الحرب ضد المدنيين في بقعة جغرافية واحدة وفترة زمنية قصيرة كالتي نشهدها.

حلب تُقصف كما قُصفت غيرنيكا، بطائرات نازية استجلبها نظام “زعيم الأمة” الفاشي لقتل شعبه بعد أن عجز عن تركيعه، وهي تُذبح على مرأى ومسمع من المجتمع الدولي كما ذُبحت سيربرنيتسا في يومها، وكما في سيربرنيتسا يتم محاولة تحويل مناطق استراتيجية منها إلى مناطق منزوعة السلاح ويتم توفير ممرات لخروج مقاتلي الفصائل المسلحة الذين يدافعون عن حلب ليتركوا المدنيين خلفهم محاصرين من قِبل النظام والروس، بل إن التغيير الديموغرافي للمدينة بدأ فعليًّا بالتزامن مع تدميرها، فمع تمركز كبير لقوات روسية مسترزقة تم تجنيدها في روسيا وميليشيات إيرانية في منطقة السفيرة تم استجلابها في الأسابيع الأخيرة، أصبحت كامل الدوائر الخدمية في حلب الغربية تحت سيطرة الإيرانيين ويتم إدارتها بشكل مباشر من قِبل عناصر إيرانية حتى المتعلق منها بالإغاثة، كل هذا بالتزامن مع تحويل مناطق سنية في حلب الغربية إلى مزارات شيعية كمنطقة “المشهد” عند “الجب الجلبي".

يزعم البعض أن روسيا بحاجة للشراكة العسكرية-الاستخباراتية مع أمريكا، إلا أن سلوكها العسكري والسياسي يناقضان هذه النظريةَ، فلم تترك وسيلة لإفشالها إلا وقامت به، على الرغم من حرص وزير الخارجية الأمريكي كيري على إنجاح الاتفاق بأي ثمن -تقريبًا-، في حين يقوم بوتين بتحريك أحجاره بعدوانية وتحدٍّ على رقعة شطرنج تمتد من أوكرانيا إلى سوريا.

الاتفاق الأمريكي-الروسي قد يكون مدمرًا للثورة السورية إن لم نحسن التعامل معه، لما فيه من ازدواجية في المعايير، وتركه لهوامش واسعة سواء لروسيا أو النظام لتحقيق أجندتهم تحت غطاء الشرعية الدولية، والأخطر من ذلك أنه يرسخ واقعًا عسكريًّا سلبيًّا بالنسبة للثورة ستبنى عليه عملية سياسية تقضي على أي آمال للشعب السوري في نيل حريته.

وعليه فإن الإصرار على أن الاتفاق هو الطريقة الوحيدة لضبط الروس لم يعد يقنع أي طرف، فبينما يتم إقناع الفصائل الثورية المسلحة والمعارضة السياسية بنظرية “الحل العسكري غير ممكن”، تقوم روسيا بالعمل على تحقيق الحسم العسكري وتمييع ما بقي من العملية السياسية التي لم تعترف بها أصلًا.

وبينما كانت تجتمع المجموعة الدولية لدعم سوريا في نيويورك لمحاولة إنعاش الاتفاق الأمريكي-الروسي، قامت روسيا بقتل أكثر من مئة مدني في حلب في يوم واحد، مع تدمير غير مسبوق لأحياء المدينة المُحاصَرة، كل ذلك بالتزامن مع قصف الجيش الحر في ريف حماة الشمالي للتأكيد على أمرين: أن نموذج غروزني هو المتبع في سوريا، وأن الفصائل الثورية المسلحة كلها إرهابية في نظر روسيا، وسيكون من الحمق بمكان لأي فصيل ثوري سوري أن يعتقد أنه يملك خيارًا غير القتال إلى النهاية أمام هكذا سياسات وأمام غياب أي قطب دولي معاكس لروسيا يملك الإرادة الحقيقية لإحداث التوازن.

ازدواجية الدور الروسي أصبحت مرفوضة كليًّا كراعٍ للعملية السياسية والهدن في حين هو مَن يقوم بخرقها وتدمير الشعب السوري، وعلى المجتمع الدولي أن يعيد النظر مرة أخرى في سياسته في سوريا.

لقد خسرت الدول التي تدعي دعمها لثورة الشعب السوري ثقته و”فلسفة الحياد” أصبحت جريمة بحق هذا الشعب وسقوطًا أخلاقيًّا غير مقبول، وعلى هذه الدول كسب هذه الثقة من جديد من خلال رفع الحظر عن دعم الفصائل الثورية بالسلاح النوعي الذي لن يغير الموازين العسكرية فحسب، بل سينقذ آلاف المدنيين الذين يموتون يوميًّا تحت القصف الجوي.

لقد فشلت “دبلوماسية الهدن” ودفع الشعب السوري ثمنها أنهارًا من الدماء ودمارًا لبلده، وبات واضحًا أننا لا نحتاج للمزيد من “بيروقراطية السياسة” من طرف المعارضة، ولكن نحتاج إلى سياسة ثورية؛ لأننا في ثورة أولًا وأخيرًا، نحتاج “السياسي الثائر” الذي يدخل العملية السياسية والبندقية بيده ويخرج منها إن ثبت له أنها لا تخدم قضيته أو تساهم في فناء شعبه، لسنا مُلزَمين بأمر لا يحقق مصالحنا ويعطي الأفضلية لأعدائنا.

لسنا ضد العملية السياسية من حيث المبدأ، وكل نزاع لا بد أن ينتهي بعملية سياسية من نوع ما، ولكن لسنا مع تحقيق العملية السياسية بأي ثمن، ولكننا مع انتزاع حريتنا مهما كلفت.

وبالتالي فإن استمرار المعارضة السورية والفصائل الثورية في أي عملية سياسية لم يعد له معنى في هذه المرحلة، ويجب على جميع الأطراف إعادة تقييم المواقف والرؤى، والأهم من ذلك العمل على وقف الإبادة الجماعية والتهجير الطائفي في حلب وباقي سوريا.

الجزء الأكبر من الحل ما زال بيد الفصائل الثورية والمعارضة ولكن ما زلنا مقصرين، وهذه حقيقة مؤلمة يجب أن نعترف بها وسنناقشها بالتفصيل في قادم الأيام، ولكنها في نفس الوقت تُبقي نافذةَ الأمل مفتوحة.

إن القوة الذاتية للثورة كافية لإحداث تغير جذري في الساحة، ولكن حتى الآن لم تتمكن قوى الثورة من استثمار كامل طاقتها وتحقيق التجانس المطلوب والتنسيق اللازم لمواجهة المخاطر المحدقة بنا، وهذا كله بلا شك يجب أن يكون أولوية عملنا وواجب الساعة.

بيكاسو خلَّد المجزرة النازية-الفاشية في غيرنيكا في لوحته الشهيرة، وسيربرنيتسا ما تزال شاهدة على الإجرام الطائفي-العرقي وفشل المجتمع الدولي، أما حلب ومعها سوريا فستكون شاهدةً على انتصار الثورة السورية مهما كلف وعلى السقوط الأخلاقي للمجتمع الدولي والفشل المدوي للسياسات الخارجية لدول كثيرة ستطارد أصحابها مهما مرت السنون.


بقلم:

أ.لبيب النحاس


http://eldorar.com/node/103412

bottom of page