
بات من الملفت للنظر الحملة الإعلامية الرسمية وغير الرسمية التي نشهدها منذ فترة على وسائل إعلام عربية وغربية تروج لفكرة “انتصار" الأسد، كان آخر أبواقها المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا ديميستورا الذي بات من الصعب منذ فترة التمييز بين دوره الأممي الحيادي والإنساني وبين دور الناطق باسم وزارة الدفاع الروسية.
ولكن في حقيقة الأمر، ربما كان أداء ديمستورا الذي بشر بسقوط حلب العام الماضي لصالح النظام والروس، والأن يبشر بتحرير الرقة أيضا لصالح النظام ولو بطريقة غير مباشرة؛ هو انعكاس صادق لحقيقة الموقف الدولي من القضية السورية بازدواجية معاييره وانحيازه السافر في معظم الأحيان، بل وتناقضه مع ذاته، فعندما كان نظام الأسد في حالة انكسار عسكري وسياسي كامل كان ديمستورا يرفض الحل العسكري ويدعو إلى حل سياسي، عمل جاهدا على أن يكون الأسد جزءا منه، في حين أنه الآن يستعمل الوضع العسكري كذريعة لإجبار المعارضة والثورة على قبول حلول مجحفة، وبالطبع تُبقي على الأسد في الحكم بصورة أو بأخرى.
يؤسفنا موقف المبعوث الخاص ديمستورا الذي أثبت مؤخرا عدم أهليته للمنصب وإخلاله بالدور المنوط به في تنفيذ قرارات وتوصيات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، بل وفشله في تجسيد قيم وثقافة المؤسسة التي يفترض أنه يعمل لها، ولكن ما يهمنا هو حقيقة هذه الحملة المسعورة لتحطيم معنويات السوريين
“على المعارضة أن تعترف أنها لم تنتصر”. هذا ما طالب به ديمستورا، وهو أمر لم يطالب به الأسد عندما حرر الثوار كامل محافظة إدلب، وكانت مدينة حلب قريبة من نفس المصير، بالتوازي مع تقدم كبير في ريف حماة وفي الغوطة الشرقية ودرعا، فيما كانت المنطقة الشرقية بأكملها خارج سيطرة النظام، وكان النظام في حالة تقوقع في دمشق ومنطقة الساحل. هكذا كان الواقع في صيف 2015، في نفس الصيف الذي كان يدعو فيه ديمستورا إلى تناسي الواقع العسكري، وأن تتحلى المعارضة بالواقعية، وأن تقتنع أن الأسد “الكيماوي” المهزوم عسكريا يجب أن يكون جزءا من الحل!
يؤسفنا موقف المبعوث الخاص ديمستورا الذي أثبت مؤخرا عدم أهليته للمنصب وإخلاله بالدور المنوط به في تنفيذ قرارات وتوصيات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، بل وفشله في تجسيد قيم وثقافة المؤسسة التي يفترض أنه يعمل لها، ولكن ما يهمنا هو حقيقة هذه الحملة المسعورة لتحطيم معنويات السوريين الذي يطمحون لتحقيق حريتهم وبناء مستقبل جديد لهم وللأجيال التي ستليهم، هذه الحملة التي تعمل على إقناع السوريين وغير السوريين أنه لا خيار لسوريا سوى الأسد وأن “انتصار” الأسد أصبح واقعا يجب التعامل معه.
ولكن ما حقيقة “انتصار” الأسد الذي تروج له أوساط غربية وغربية وبناء عليه يتم الضغط على المعارضة والثوار السوريين لتقبل “الواقع” والخضوع له؟
لقد كان بشار “الدكتور” -بغض النظر عن حقيقة هذا اللقب- في 2011 يسيطر على كامل سوريا، دون أي منازع داخلي أو خارجي، وكان يتمتع بكامل الشرعية الدولية يتنقل بين العواصم العربية والغربية محاولا إعطاء صورة الرئيس العربي “المودرن” بعيدا عن إرث أبيه الإجرامي وتاريخه الأسود، وقد بدأ بوضع الأسس لاستمرار حكم عائلته لعشرات السنين القادمة بعد أن قام بمأسسة الفساد ومصادرة اقتصاد البلاد.
إذا أخذنا بعين الاعتبار عدد المتضررين وضحايا “انتصار” الأسد وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن متوسط حجم العائلة السورية هو ستة أفراد، فبإمكاننا القول أن حوالي ثلاثة أرباع الشعب السوري عنده مشكلة شخصية أو ثأر مع الأسد “المنتصر” الذي يُطالب البعض الشعب السوري بالقبول به كواقع.
أما اليوم: فهو بشار “الكيماوي” على رأس حكومة “فيشي” تتقاسمها إيران وروسيا، تحاول بسط سيطرتها على بلد تم تدمير حوالي 30% من مناطقه السكنية وأكثر من نصف بنيته التحتية التعليمية والطبية، بينما يعيش ثلاثة من كل أربعة سوريين قادرين على العمل في البطالة في ظل اقتصاد دُمر 75% منه على الأقل في السنوات الخمس الأولى للحرب، أي ما يفوق نسبة الدمار الإقتصادي لكل من اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، كل هذا وسط تمزق النسيج الاجتماعي للبلد وتعرض سوريا لعملية إعادة توزيع ديموغرافي وتطهير طائفي وعرقي غير مسبوقة.
“انتصار” الأسد حول سوريا إلى مرتع للميليشيات الأجنبية الطائفية وسط تفكك كامل لجيش النظام والمؤسسة العسكرية، ولكن مع استمرار المنظومة الأمنية -تقريبا بكاملها- بصفتها الرافع الحقيقي لمشروع النظام وحلفائه وأداته المفضلة في قمع الشعب السوري والتنكيل به، هذا الشعب الذي ضحى بنصف مليون شهيد ومئات الآلاف من المعتقلين والمغيبين قسرا، وحوالي 12 مليون مشرد ولاجئ بعد أن ارتكب الأسد “الكيماوي” كل أنواع جرائم الحرب من القتل العشوائي والتعذيب والتجويع بحق السوريين. عمليا: إذا أخذنا بعين الاعتبار عدد المتضررين وضحايا “انتصار” الأسد وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن متوسط حجم العائلة السورية هو ستة أفراد، فبإمكاننا القول أن حوالي ثلاثة أرباع الشعب السوري عنده مشكلة شخصية أو ثأر مع الأسد “المنتصر” الذي يُطالب البعض الشعب السوري بالقبول به كواقع.
لو أراد الشعب السوري القبول بالأمر الواقع فليس هناك واقع أصلب وأقوى وأكثر تجذرا من الواقع الذي كان يعيشه في 2011، ومع ذلك رفضه وثار عليه وسعى لمستقبل أفضل يليق به وبتاريخيه، وقطعا لن يقبل اليوم بانتصار الوهم الذي يحاول البعض ترسيخه ولن يخضع لوهم الهزيمة الذي يتم دفعه بقوة باتجاهها
“انتصار” الأسد الذي يتم الترويج له هو اكتمال احتلال سوريا من قبل إيران وروسيا، وتقسيمها إلى مناطق نفوذ، وإعادة إطلاق يد الأجهزة الأمنية لقمع السوريين والتنكيل بهم، واستمرار سياسة التجويع على المناطق المحررة واستعمال الجماعات المتطرفة كحصان طروادة لاستجلاب المزيد من التدخل الدولي وتبرير جرائم الحرب القادمة. هذا هو “الانتصار” الذي يريد البعض أن يقبله الشعب السوري كأمر واقع بعد كل التضحيات والثمن الباهظ الذي دفعه.
لو أراد الشعب السوري القبول بالأمر الواقع فليس هناك واقع أصلب وأقوى وأكثر تجذرا من الواقع الذي كان يعيشه في 2011، ومع ذلك رفضه وثار عليه وسعى لمستقبل أفضل يليق به وبتاريخيه، وقطعا لن يقبل اليوم بانتصار الوهم الذي يحاول البعض ترسيخه ولن يخضع لوهم الهزيمة الذي يتم دفعه بقوة باتجاهها، لأن ما يعجز البعض عن فهمه هو أن الثورة فعليا انتصرت في أهم تحد لها هو تغيير المفاهيم الأساسية والوعي الجماعي لهذا الشعب، وهذا إنجاز عظيم عمل النظام السوري أكثر من خمسة عقود على منعه والحيلولة دونه. سيستخف البعض بهذا الانجاز، ولكن من يدرك بدقة آليات تغيير المتجمعات ودورة حياة الأمم؛ يعلم تماما قيمة ما حصل وأثره على مستقبل سوريا والمنطقة، ولذلك يسعى بشار “الكيماوي” كما صرح إلى أعادة بناء سوريا أكثر تجانسا"، أي: خالية من فكر الثورة ومن القيم التي تدعو للتغيير.
السوريون بشكل عام ولا سيما الذين شاركوا بالثورة توسعت آفاقهم وتحرروا من مفاهيم وتصورات باطلة خضعوا لها لعقود طويلة، وأتاحت لهم الثورة الفرصة للاحتكاك بثقافات وطرق تفكير جديدة، ودخلوا مجالات عمل وبحث كانت محرمة عليهم، وأدركوا بل وعاشوا ومضات ولحظات من واقع يمكن بل ويجب بناؤه في سوريا المستقبل. الشعب السوري تغير، وفهم أنه حُرم من حقه في السعي لتحقيق سعادته وحريته وهويته، وحتى شرائح المجتمع السوري التي تعيش تحت الاحتلال الإيراني-الروسي في ثكنات دمشق وحمص وغيرها أدركوا هذه الحقيقة، بل وأن من يسميهم البعض بحاضنة النظام بدؤوا يدركون حقيقة الصراع وحقيقة النظام الذي استعملهم، ولكن للأسف لم يروا مشروعا واضحا من طرف المعارضة يجعلهم ويجعل غيرهم يتخذ موقفا مختلفا وقويا من النظام.
الثورة فرضت واقعا سياسيا جديدا جعل من الأسد “الكيماوي” عبئا سياسيا وأخلاقيا على المجتمع الدولي وكل من يدعي حمل أي قيم إنسانية أو قانونية، وجعلت من استمرار الأسد مهمة سياسية صعبة جدا تعمل روسيا وإيران بالتعاون مع بعض الأطراف المشبوهة إلى تحويلها إلى إجراءات بيروقراطية تُحل في مؤتمرات
ولكن الثورة غيرت أكثر من تغيير الضمير الجمعي للشعب السوري وفتح عيونه على واقع جديد ومستقبل دون حدود أو قيود، الثورة فرضت واقعا عسكريا جديدا، حتى لو تعرض لانتكاسات في السنة الأخيرة، إلا أنه واقع لا يمكن تجاوزه ويمكن تثبيته والبناء عليه بل وتطويره إذا قامت المعارضة المسلحة والثوار بالخطوات اللازمة وأوقفوا ديناميكية التدمير الذاتي التي دخلوا فيها في السنة الأخيرة، رغم أن التوجه الدولي في المنطقة الشرقية مخيب للآمال بل ويرسل إشارات مقلقة، ولكن حتى هذه المسألة يمكن التعامل والتكيف معها.
الثورة فرضت واقعا سياسيا جديدا جعل من الأسد “الكيماوي” عبئا سياسيا وأخلاقيا على المجتمع الدولي وكل من يدعي حمل أي قيم إنسانية أو قانونية، وجعلت من استمرار الأسد مهمة سياسية صعبة جدا تعمل روسيا وإيران بالتعاون مع بعض الأطراف المشبوهة إلى تحويلها إلى إجراءات بيروقراطية تُحل في مؤتمرات واجتماعات تحت أمر الواقع الذي يروجون له، وعملوا جاهدين على صناعته في المقام الأول. الجميع يعلم أنه لا شرعية لأي حل في سوريا ما لم تكن المعارضة والثوار جزءا منه وموافقون عليه، وهذه من أقوى الأوراق السياسية التي تمتلكها الثورة، ولكن لم يتم تفعيلها حتى الان، وسمح البعض للهزيمة النفسية بأن تتسرب إلى عقولهم وقلوبهم.
الانتصار الحقيقي لا يكمن في تدمير قدرات العدو العسكرية، ولكن يكمن في تدمير رغبة العدو في القتال وترسيخ هزيمته الداخلية الذاتية، لأنه ما دام هناك إيمان وعزيمة وقناعة بالقدرة على النصر فالاستمرار وإعادة الكرة أمر ممكن، وهو ما يحاول الأسد ومن حوله تحقيقه
لأن الهزيمة الحقيقية هي الهزيمة المعنوية التي هي بداية الانكسار الكامل، وهو ما تسعى له الأطراف التي تروج لما سموه “انتصار” الأسد، فهؤلاء يعلمون أن الانتصار الحقيقي لا يكمن في تدمير قدرات العدو العسكرية، ولكن يكمن في تدمير رغبة العدو في القتال وترسيخ هزيمته الداخلية الذاتية، لأنه ما دام هناك إيمان وعزيمة وقناعة بالقدرة على النصر فالاستمرار وإعادة الكرة أمر ممكن، وهو ما يحاول الأسد ومن حوله تحقيقه، وعلى المعارضة والثوار رفضه ومحاربته وإدراك مكامن القوة عندهم ومكامن الضعف عند أعدائهم، ومرحلية الصراع بينهم وبين أعدائهم وحقيقة الوضع الدولي الذي ليس هو بالبساطة التي يتصورها البعض، لا بالديمومة التي يتمناها الآخرون: بشار الكيماوي لن يتم القبول به دوليا إلا إذا قبلت به معارضات يتم إنتاجها وتعويمها، ومصالح الدول في سوريا أكثر تعقيدا وتضاربا من أن يتم إبرام تفاهم بينها بالسطحية والسرعة التي يروج لها البعض، ولكن لا شك أن المعارضة السورية والثوار لم يضمنوا لأنفسهم مقعدا بعد في التفاوض في ظل سياستهم الحالية وهذا ما يجب تغييره.
الانتصار الحقيقي الوحيد للأسد الذي هو وصمة عار في جبين المجتمع الدولي يكمن حصرا في أنه لا يزال على قيد الحياة في دمشق، ولم تتم سحب الشرعية الدولية منه بشكل كامل، نظرا لوجود أكثر من ديمستورا واحد فضاء السياسة الدولية ومراكز صنع القرار، ولكن هذا “الانتصار” يعود لثلاثة أسباب رئيسة يجب الاعتراف بها: التدخل الروسي والإيراني العسكري والسياسي المباشر وتحولهم إلى قوات احتلال لسوريا، الموقف الدولي المتردد بل والمتخاذل إزاء الشعب السوري، وأخيرا أخطاء المعارضة والثوار وعجزهم عن توحيد صفهم واستثمار انتصاراتهم العسكرية وعدالة قضيتهم وإنسانيتها لبناء خطاب سياسي ورؤية جامعة تحظى بقبول الشعب السوري والمجتمع الدولي على حد سواء، وسماحهم لشذاذ آفاق متشددين وتجار أيديولوجيات محاولة خطف الثورة.
نعم، أمام الشعب السوري تحديات عظيمة، والواقع اليوم أسوأ مما كان عليه من سنتين، ولكن من نفس المدة أيضا ألقى بشار “الكيماوي” خطاب الهزيمة الذي أقر به ضمنيا بانكساره رغم الدعم الإيراني غير المحدود قبل أن تأتي روسيا لإنقاذه، وقبل أن يكمل بيع البلد بأسرها للخارج، وحتى ننظر بعد سنتين إلى اليوم كنقطة تحول في تاريخ سوريا الحديث، على المعارضة والثوار تغيير استراتيجيتهم وطريقة عملهم تغييرا جذريا، وأن يواجهوا التحديات الأربعة التالية بنسبة نجاح معقولة: مؤتمر الأستانة القادم، مؤتمر الرياض 2، ملف المنطقة الشرقية ومعضلة تنظيم “النصرة”.