top of page

بل هو بابلو إسكوبار


بابلو إيميلو إسكوبار غافيريا -على الأقل نعرف نسبه الكامل- هو أشهر تاجر مخدرات في التاريخ دون منازع. ولد وعاش ومات في كولومبيا -على الأقل نعرف أصله ومنشأه- وكان بلا شك نقطة تحول كبيرة في تاريخ تجارة المخدرات وتحولها إلى تجارة عالمية بل واقتصاد بحد ذاته قادر على التحكم بدول بأكملها. بابلو إسكوبار بدأ حياته ككاثوليكي متدين ليتحول إلى لص صغير ثم إلى قاتل مأجور ليتحول في أوج صعوده إلى أحد أغنى الشخصيات في العالم. هذا الصعود السريع والثروة الطائلة جعلت إسكوبار يطمح للعب دور سياسي في بلده، وتمكن بالفعل من “شق” طريقه في عالم السياسة بأساليب ملتوية وغير قانونية بل وغير أخلاقية، ولكنه قدم نفسه على أنه “روبين هود” الشعب وأنه لم يدخل السياسة إلا “لنصرة” الشعب الكولومبي.


تمكن إسكوبار من أن يصبح عضوا في مجلس النواب الكولومبي، إلا أن الطبقة السياسية في البلاد كانت قد تمكنت من معرفة أصله الحقيقي ومصدر ثروته، فتم طرده من الحياة السياسية، فكانت ردة فعل إسكوبار تمويل هجوم إرهابي على المحكمة العليا في كولومبيا، والبدء بعدها بحملة اغتيالات لسياسيين وقضاة وضباط وعناصر شرطة امتدت إلى يوم موته.

 

المدعو الجولاني، وأقول المدعو لأننا لا نعرف يقينا اسمه ولا أصله ولا تاريخه، هو النسخة السورية -في حال ثبت أن الجولاني سوري- لبابلو إسكوبار مع فارق الحجم والتأثير والمواهب الشخصية لصالح الكولومبي طبعا.

 

نجاح إسكوبار كزعيم عصابة إجرامية وتاجر مخدرات إبداعي وطالب سلطة دون قيود أخلاقية أو خطوط حمراء لا يعادله سوى موهبته في صناعة الأعداء. فأصبح إسكوبار مطاردا من قبل الشرطة الكولومبية، الحكومة الأمريكية، قادة كبرى عصابات تهريب المخدرات وعائلات وأصدقاء ضحاياه الذين باتوا بالآلاف. مات إسكوبار قتلا على يد الشرطة الكولومبية بمساعدة جميع أعداء إسكوبار، وحيدا مطاردا، هائما على وجهه، حافي القدمين على سطح بيت في مدينة “ميديلين” في كولومبيا، المدينة التي ظن إسكوبار أنها لن تتخلى عنه خوفا ومحبة.


المدعو الجولاني، وأقول المدعو لأننا لا نعرف يقينا اسمه ولا أصله ولا تاريخه، هو النسخة السورية -في حال ثبت أن الجولاني سوري- لبابلو إسكوبار مع فارق الحجم والتأثير والمواهب الشخصية لصالح الكولومبي طبعا. قطعا لم يتاجر الجولاني بالمخدرات على حد علمنا، ولكن كما إسكوبار بنى مجده على دماء وأرزاق الناس وبطرق غير شرعية ولا أخلاقية، وظن أن إنجازاته تعطيه الحق ليلعب دورا في مستقبل سوريا ويدخل السياسة من بابها العريض محمولا على الأكتاف. إلا أن الواقع المر والحقيقة أرجعته إلى موقعه الحقيقي من الإعراب (زعيم عصابة تتاجر بمصير وأرزاق الناس)، فجن جنونه ورفع من وتيرة تصفيته لخصومه وأعدائه ووضع إدلب على شفا حفرة من كارثة كبيرة، تماما كما وضع إسكوبار كولومبيا بأسرها تحت رحمة إجرامه وعلى شفا حفرة من الحرب الأهلية والفوضى العارمة والتدخل الأجنبي المباشر (نعم: أمريكا كانت السوق الأكبر لإسكوبار، وضحيته المفضلة).

 

يجب ألا ننسى أن الجولاني أتى إلى سوريا في مهمة لأميره السابق "البغدادي" ولم يكن يوما حتى تلك اللحظة ولا بعدها جزءا من الثورة السورية، فلم يعش مظاهراتها ولا جهادها ولا أجواءها النقية والروحانية في بداياتها. الثورة عرفت الجولاني كزعيم عصابة موفد من قبل زعيم عصابة أكبر منه، والجولاني لم يعرف الثورة السورية إلا ساحة صراع سلطة وبناء مجد شخصي.

 

يتسأل الكثيرون عن سبب صعود الجولاني السريع، ويغرق البعض في تحليلات فكرية وتنظيمة لا تمت إلى الواقع بصلة. لاشك أن الجولاني استثمر الجانب الأيديولوجي لبناء نواة صلبه حوله وتسخيرها لتنفيذ مخططاته العدوانية مهما بلغت درجة الإجرام، ما دام هناك “شرعي” يصدر الفتوى لترقيع أفعال أميره وتفجير رؤوس مخالفيه ومنافسيه، ولا شك أن فصيل الجولاني بالمجمل يمثل أحد أهم حالات انحراف السلفية الجهادية في العقد الأخير، ولكن يجب ألا ننسى أن الجولاني أتى إلى سوريا في مهمة لأميره السابق "البغدادي" ولم يكن يوما حتى تلك اللحظة ولا بعدها جزءا من الثورة السورية، فلم يعش مظاهراتها ولا جهادها ولا أجواءها النقية والروحانية في بداياتها. الثورة عرفت الجولاني كزعيم عصابة موفد من قبل زعيم عصابة أكبر منه، والجولاني لم يعرف الثورة السورية إلا ساحة صراع سلطة وبناء مجد شخصي.


لقد تفوق الجولاني على غيره لأنه زعيم عصابة محترف امتهن الحرفة وتفوق فيها، في حين لم يجد أمامه منافسا بعد غياب القادة الأخيار الذين مثلوا وقدموا نمطا مغايرا في القيادة والإدارة والأهم من ذلك منظومة قيم أخلاقية وفكرية مختلفة. لقد كان الجولاني الأكثر براغماتية واستعدادا لسفك الدم ثم “الترقيع” لأفعالة عن طريق عصابة “الشرعيين” التي تعمل له، فكان الأقدر دائما على التخطيط والتنفيذ أسرع من خصومه ومنافسيه، ومع غياب أي رادع شرعي أو أخلاقي أصبح الطريق ممهدا أمامه.


حاولت الحكومة الكولومبية “احتواء” إسكوبار، وإيجاد مخرج مشرف له يقي البلد شره ويحول دون الوصول إلى مواجهة شاملة وتدخل أجنبي، ولكن إسكوبار رفض وتمسك بالنفوذ والسلطة وبدأ بحملة تفجيرات واغتيالات من طراز جديد طالت المدنيين بشكل أكبر كان يهدف منها تركيع الحكومة وفرض نفسه كلاعب “شرعي” في البلاد.


قصة مألوفة؟ للأسف نعم، ولكن المصيبة تكمن بأتباع الجولاني المغرر بهم الذين قد لا يستيقظون من وهمهم الحالي إلا بعد فوات الأوان.

 

الجولاني ليس عنده إشكالية في المشروع الوطني ما دام هو رأسا فيه، ولكن المعضلة تكمن في النواة الصلبة المتشددة المحيطة به التي باعها فكرة المشروع النقي الطاهر، وعملت هي بدورها على أدلجة العناصر على ذلك، وتبرير الجرائم التي اقترفت باسمه. المشكلة تكمن في المقاتلين الذين سفكوا دماء مقاتلي حركة أحرار الشام وغيرهم لقيام هذه الأطراف بأمور سيضطر قائدهم للقيام بها إذا أراد إنقاذ نفسه وحلقته الضيقة.

 

سيكتشف أتباع الجولاني -ربما متأخرين- أن قائدهم استعملهم وضحى بهم لتحقيق مجده الشخصي.

سيكتشف أتباع الجولاني -ربما متأخرين- أن قائدهم كان يتكلم عنهم في الاجتماعات الخاصة وكأنهم قطعان ماشية يتم التضحية بهم كما يشاء ولأي هدف يراه مناسبا مهما كان بخسا في حقيقته.

سيكتشف أتباع الجولاني -ربما متأخرين- أن قائدهم كان يتفاخر بقدرته على التضحية بأتباعه والمخاطرة بهم على عكس منافسيه وخصومه الذين كانوا حريصين على دماء جنودهم.

سيكتشف أتباع الجولاني -ربما متأخرين- أن قائدهم لم يكن يوما صاحب فكر ولا بحريص على تطبيق شرع الله إلا بالقدر الذي يسمح له بالتمسك بالسلطة وتبرير جرائمه.

سيكتشف أتباع الجولاني -ربما متأخرين- أن شرعيي قائدهم كانوا مزيجا من غلاة وبغاة وعملاء مخابرات، وكانوا جميعا “مرقعين”، إلا من رحم ربك.

سيكتشف أتباع الجولاني -ربما متأخرين- أنهم سفكوا دماء محرمة بفتاوى معلبة لن تنفعهم يوم الدين.

سيكتشف أتباع الجولاني -ربما متأخرين- أن قائدهم عمل جاهدا للظفر بالقبول الإقليمي وقدم كل التسهيلات المطلوبة التي كان يعير ويكفر بها غيره، ورفضته الدول.

سيكتشف أتباع الجولاني -ربما متأخرين- أن قائدهم فتح قنوات تواصل مع الغرب وسعى حثيثا لإعادة تأهيل نفسه ولكن دون جدوى.

وسيكتشف أتباع الجولاني -ربما متأخرين- أن قائدهم ومن معه لن يتم القبول به دوليا أو إقليميا مهما فعل، ولكن ليس من الضرورة بمكان أن يواجهوا نفس مصيره.


من المفارقات أن الجولاني سيواجه الآن معضلة كبيرة هي من حصاد ما زرعه: فالمخرج الوحيد المحتمل وغير المضمون للجولاني من ورطته هو الانخراط الفعلي في الثورة دون شروط أو قيود بدلا من محاولة خطفها والتحكم بها، خياره الوحيد هو الانصهار في مشروع وطني حقيقي ربما تحت سقف الحكومة المؤقتة لايملك فيه أي دور قيادي، وفرصته الوحيدة لخدمة الثورة إن كان صادقا هو العمل من الصفوف الخلفية وبهدوء، وإن كنت أرى أن أكبر خدمة يستطيع أن يقدمها في حقيقة الأمر هي أن يغادر سوريا.

 

تنظيم الجولاني على وشك مواجهة أكبر تحد له بعد خروجه من عباءة البغدادي، وقد يكون أمام مفترق طرق خطير ينتهي بانقسامات داخلية ومواجهات بين إخوة المنهج في الماضي.

 

الجولاني ليس عنده إشكالية في المشروع الوطني ما دام هو رأسا فيه، ولكن المعضلة تكمن في النواة الصلبة المتشددة المحيطة به التي باعها فكرة المشروع النقي الطاهر، وعملت هي بدورها على أدلجة العناصر على ذلك، وتبرير الجرائم التي اقترفت باسمه. المشكلة تكمن في المقاتلين الذين سفكوا دماء مقاتلي حركة أحرار الشام وغيرهم لقيام هذه الأطراف بأمور سيضطر قائدهم للقيام بها إذا أراد إنقاذ نفسه وحلقته الضيقة.


تنظيم الجولاني على وشك مواجهة أكبر تحد له بعد خروجه من عباءة البغدادي، وقد يكون أمام مفترق طرق خطير ينتهي بانقسامات داخلية ومواجهات بين إخوة المنهج في الماضي. ومع تزايد الضغط على القيادات في التنظيم لإيجاد الحلول للوضع الجديد الذي صنعته حماقات قائدهم، وبين استمرار سقوط القناع عن حقيقة منهج القيادة ومتاجرتها بالدين، ومع دخول الثورة ككل في مرحلة حساسة جدا وسياسية بامتياز، سيضطر أتباع الجولاني وجنود الهيئة لاتخاذ قرارات صعبة وحسم أمرهم.


لا نعرف بعد ماذا ستكون نهاية إسكوبار السوري، ولكن البوادر قطعا لا تبدو مشجعة أو مطمئنة ولا سيما أنه سيختار الطريق الأسوأ كالعادة: طريق الدم والتصادم، الطريق الوحيد الذي يعرفه. وفي الواقع لا يهمنا إسكوبار السوري، بل سوريا، وإدلب التي حاول الجولاني ربط مصيرها به وأخذها رهينة وجرها إلى الهاوية.

إنقاذ إدلب يحتاج خطوات كثيرة ومتشعبة ولكنها جميعا تمر بأمر واحد: وهو رفض مشروع الجولاني في الإدارة “الأمنية” وبناء البديل، والبديل الوحيد وهو تفعيل الحكومة المؤقتة.

bottom of page