
أي معارضة تدرك أنها في مأزق حقيقي عندما يتم اختيار ممثليها ودعوتهم إلى مؤتمر مصيري من قبل أطراف خارجية وسط غياب شبه كامل للقرار الوطني. مؤتمر الرياض 2، استحقاق سياسي جديد يواجه الثورة السورية والشعب السوري عامة، استحقاق قد يكون له ما قبله وما بعده. يعتقد البعض أن مؤتمر الرياض هو الخطوة التمهيدية لفرض حل سياسي للقضية السورية، ولكن أعتقد أننا ما زلنا بعيدين عن تلك اللحظة وليس هناك مؤشرات دولية على وجود هذا الحل أو حتى اقترابه، ولكن لا شك أن هناك سعياً حثيثاً لصنع الأدوات اللازمة وخلق البيئة الضرورية لحل سياسي سيكون دون طموحات الشعب السوري وتضحياته.
أما الأدوات المطلوبة لتحقيق مثل هذا الحل السياسي؛ فهي معارضة سورية هجينة مسلوبة القرار سهلة الانصياع مستعدة -مجانا- لإضفاء الشرعية السورية على أي حل مطروح، تتحرك وفق رؤية سياسية تحت السقف الروسي وتسلم باستمرارية الأسد وعصابته تحت مسميات عديدة وعبارات مبهمة تمهد للتطبيع بين المعارضة والثوار من جهة والنظام من جهة أخرى وتنتهي بتسوية شاملة. هذه هي المخرجات التي تأمل روسيا تحقيقها في سوتشي، وهي نفسها التي يجب ألا يتمخض عنها مؤتمر الرياض.
الموقف المنطقي للمعارضة السورية والثورة في عالم مثالي هو مقاطعة المؤتمر - مع الاحتفاظ بالعرفان والجميل لمنظميه الذين هم من حلفائنا ومن أصحاب الفضل- لأسباب كثيرة أهمها تجاهل وتجاوز القرار الوطني، وغياب أجندة ومخرجات واضحة للمؤتمر، فضلا عن حضور أطراف معادية للثورة، فاقت في عدائها لنا وعمالتها للنظام بعض الأطراف التي حضرت مؤتمر الرياض. إلا أن المعارضة لم تقم بواجباتها قبل المؤتمر ولم تعمل بجدية على توحيد صفها وقرارها، والآن ندفع الضريبة الاعتيادية، مع استمرار غياب غير مفهوم ولا مبرر لرؤية سياسية متكاملة للمعارضة والثورة حول حل القضية السورية ومستقبل البلاد، بل وسط غياب لأي تحضير جماعي للمؤتمر.
بعيدا عن التحليلات التي تم إشباعها كتابة ونقاشا، يمكن القول أنه على من سيحضر مؤتمر الرياض أن يتمسك بثلاثة مخرجات لا يمكن التنازل عن أي منها. أولها التأكيد بشكل واضح وصريح وبعيدا عن أي لغة ضبابية أو دبلوماسية على رفض أي دور لبشار الكيماوي وعصابته في أي عملية سياسية في مستقبل سوريا بما في ذلك المرحلة الانتقالية، والتمسك بمسار جنيف السياسي وفق إعلان جنيف 1 والقرارات الأممية ذات العلاقة به، ولا سيما المتعلقة بالوضع الإنساني وبملف المعتقلين، واعتبارهما ملفات “فوق تفاوضية”.
المخرج الثاني هو التأكيد على ضرورة إنهاء الوجود العسكري والنفوذ الإيراني في سوريا كشرط أساسي لاستقرار المنطقة بالعموم ولبناء مستقبل واعد لسوريا بعيدا عن الخطاب الطائفي والتغيير الديموغرافي والهيمنة الخارجية، واعتبار بشار الكيماوي ونظامه الركن الأساسي لإيران ومشروعها في سوريا، وتلازم حرب الطرفين مع تحقيق نتائج حقيقية ذات ديمومة.
أما المخرج الثالث فهو التمسك بربط أي عملية سياسية في المستقبل بشكل واضح وصريح بتحقيق بيئة أمنية ضامنة لعودة السوريين المهجرين واللاجئين إلى بيوتهم ليشاركوا فعليا في تقرير مصير بلدهم، وتقييد أي عملية إعادة بناء في سوريا بتحقيق حل سياسي يحقق انتقالا سياسيا حقيقيا وفق مسار جنيف حصرا
لا شك أن على ممثلي المعارضة والثورة الحقيقيين في الرياض أن يسعوا لمنع هيمنة أطراف مشبوهة على تركيبة ومراكز صنع القرار في أي جسد سياسي أو هيئة تفاوض قد تتمخص عن المؤتمر، وعدم تحولها إلى مرجعية سياسية بديلة عن الأجسام الثورية الرسمية، بغض النظر عن الفشل الحالي لهذه الأجسام. وعلى ذكر هذه الأجسام، فواجب الساعة للمعارضة والثورة بأكملها هو إعادة تأهيلها واسترجاعها لصالح الثورة فهي في نهاية المطاف ملك للثورة ومحصلة تضحيات أبنائها، وليست حكرا أو ملكا لمن تربع على عرشها. ولكن لهذا الحديث مقام آخر.
من الصعب تحقيق هذه المطالب والأهداف وسط الهزيمة المعنوية التي تعيشها بعض أطراف المعارضة وشخصياتها تحت مسمى “البراغماتية” و ”الواقعية” و ”الحنكة السياسية” و ”اللعب على تضارب مصالح الدول”، وكلها مبررات واهية لتقبّل واقع وهمي عملت بعض الأطراف الإقليمية والدولية على مدى أشهر على ترسيخه في عقول السوريين يُفضي إلى تعويم الأسد وإعادة تأهيل النظام ووأد الثورة.
الواقع الذي يجب أن يترسخ في عقول ووجدان المؤتمرين في الرياض والمعارضة والثورة بالعموم هو الآتي: لقد قمنا بأعظم ثورة في التاريخ الحديث، وحاول النظام عسكرتها لكسرنا، فكسرناه عسكريا ومن معه من حزب الله وميليشيات إيران، حتى اضطرت روسيا للتدخل عسكريا وارتكاب جرائم حرب يومية على مدى عام لإيقاف تمدد الثورة عسكريا. وعلى الرغم من ذلك لا تزال الثورة تحتفظ بخمس مناطق محررة، بعضها ذو أهمية استراتيجية حيوية كبيرة، وأثبتت معارك الغوطة الأخيرة على ضعف وانهيار النظام بشكل كبير مع استمرار الفلتان الأمني في مناطق سيطرته. بالتوازي مع كل هذا، فشل حلفاء النظام في تمرير أي حل سياسي أو حتى بناء أي معارضة هجينة بديلة على الرغم من النجاح الروسي النسبي في تفكيك المعارضة السياسية وتفرقة قرار الفصائل الثورية المسلحة.
الواقع السياسي الدولي والإقليمي لا يزال محكوما بخلافات عميقة وجذرية حول سوريا يصر البعض على تبسيطها وتسطيحها لترسيخ فكرة إنهاء الثورة وتعويم النظام. يجهل البعض أنه لا شرعية لأي حل في سوريا دون موافقة المعارضة “الشرعية”، ولا سبيل لبدء إعادة الإعمار وضخ الأموال الدولية التي تعوّل عليها روسيا والنظام إلا بعد إقرار حل سياسي وفق شرعية دولية وسورية المعارضة ركن أساسي فيها. الواقع السياسي يدل على أن بشار الكيماوي هو عبء سياسي لكل حليف له، والمساومة عليه لا تتعدّى مسألة وقت إذا تمكنت المعارضة من الثبات على مبادئها ومواقفها.
روسيا تدرك هذه النقاط الجوهرية، لذلك عملت على شراء شرعية المعارضة بأي ثمن، بالترهيب والترغيب، ولكن يبدو أن المعارضة نفسها لم تدرك بعد نقاط قوتها والأوراق التي تملكها. على قيادات المعارضة أن تكتشف معنى قوة الموقف الموحد، وهو أمر لم يحصل حتى الآن، فرفض سوتشي كان سهلا، ولو أنها جربته -ولو لمرة واحدة- لوجدت احترام الآخرين حتى من المخالفين، ولاحتضنها الشعب، هذا الشعب العظيم والمستعد للاستمرار في التضحية إذا وجد أمامه قيادة لائقة ومخلصة، بعيدا عن أدعياء السياسة والثورية وتجار الدين.
الثورة هي الحليف الأكبر والشريك الحقيقي لكل من أراد أن يحارب مشروع إيران التوسعي والطائفي في المنطقة، واستمرار الثورة ضرورة تكتيكية وأحيانا استراتيجية يفرضها تصادم مصالح الدول المتنافسة في سوريا، ولكن على المعارضة والثورة عدم الانسياق وراء أي استقطابات إقليمية، وأن تدرك قياداتها حقيقة الواقع الذي نعيشه وقوة الأوراق التي نمتلكها. ورغم ذلك، يجب أن تدرك القيادات أيضا أنه من المستحيل استثمار هذه الأوراق لصالح الشعب والثورة في ظل غياب قرار وتمثيل موحد، وهذا ما يجب العمل عليه حتى ننجح.
للأسف، غالب الظن أن مؤتمر الرياض سيؤدي إلى انقسامات في المعارضة والثورة وهي نتيجة شبه حتمية لتطورات الأشهر الأخيرة، ولكن يجب العمل على تخفيفها والتعويض عنها بعمل ثوري نوعي يساهم في توحيد صف الثورة وجمع شملها. على المؤتمرين وهم يدخلون قاعة الاجتماع أن يعلموا أنهم ليسوا في موقف ضعف، وأن عدوهم في وضع أسوأ منهم، ولكن ربما يجلس إلى جانبهم.
على قيادات المعارضة والثورة أن يستشعروا عظم التضحيات التي قدمها شعبنا، وعظم المسؤولية الملقاة على عاتقهم. تضحيات الشعب السوري ليست لتعديلات دستورية أو اصلاحات شكلية، إنها تضحيات شعب يطالب ويستحق ولادة جديدة، ومن لا يجد في نفسه القدرة على تحمل مثل هذا العبء والمسؤولية فليتنحى جانبا ويسلم الشعلة لغيره قبل أن تحرقه. فإن عجز المؤتمرون عن تحقيق الحد الأدنى من المطالب التي ذُكرت في هذا المقال فأقل ما يمكن القيام به هو الانسحاب بشكل كامل تبرئةً للذمة أمام الله والشعب، وألا يكونوا شهود زور على ذبح شعبهم وثورته، فأي رؤية أو حل تُبقي على بشار الكيماوي هو حكم بالإعدام على الشعب السوري مع وقف التنفيذ إلى أجل مسمى.