
تحولت تسمية يوم الجمعة القادم -غدا- إلى مادة نقاش واختلاف بين أطراف عديدة في الحراك الثوري وفرصة لبعض الأطراف “السياسية المعارضة” لتسجيل نقاطٍ أو تفادي أهداف في مرماها.
لا شك أن مظاهرات يوم الجمعة منذ بداية الثورة كانت وما تزال من أهم “شعائر” هذه الثورة العظيمة اليتمية، وقد أثبت الحراك الثوري منذ البداية امتلاكه نضجا متميزاً في اختيار الاسم الأكثر ملاءمةً للأحداث الجارية الذي من شأنه أن يحقق عظيم الوَقْع في وسائل الإعلام العربية والغربية وأن يساهم بشكل فعال في صياغة وترشيد الخطاب الثوري.
لن أدخل في صوابية الآلية التي يتم من خلالها تسمية الجمعة أو أي الأسماء كان الأنسب، ولن أخوض في الثغرات التي يمكن أن تستثمرها بعض الجهات لتسييس عملية التسمية وتسخيرها لمآربها الخاصة، ولكن من المفيد التأمل في كيفية تعاطي مختلف الأطراف مع الحادثة، وهنا نجد إيجابيات كثيرة ونصطدم بالآفات الاعتيادية للأسف.
ربما من الصعب بالنسبة للسوريين أن يثمنوا الآن بعض ما حققوه في السنوات الأخيرة على الرغم من الفاتورة الباهظة والمستمرة التي يدفعونها، ولكن نحن حقا أمام بداية تَغيرٍ في الثقافة والعقلية العامة، وأقول هي بداية فقط لأن استكمال التغيير سيحتاج إلى جيل جديد لم يتلوث بأمراض الجيل الحالي والسابق. السوري الذي شارك في الثورة وعاشها بات من الطبيعي له أن يرفض أي وصاية على قراره وعلى تفكيره وأن يعبر عن ذلك، وبقوة. ربما قد يُفرط بالإمعان في نظرية المؤامرة أحيانا ولكن في الواقع تفتّحت عقول الناس على ثقافة حرية الرأي ورفض التحكم بالعقول والأفكار، وهذا رأسمال عظيم قد لا نعيش لنرى نتائجه وحصاده النهائي.
الثورات قد تتأخر عقودا في ضبط إيقاعها وخطابها ومأسسة مخرجاتها وإنجازاتها مولّدةً حالةً من الفوضى أو التخريب (كما يحلو للبعض تسميته)، وربما لا نزال نعيش هذه المرحلة، إلا أن الخلاف حول تسمية الجمعة عكس حالة صحية وطبيعية في أي مجتمع حيّ وحر تتطارح فيه الآراء المختلفة.
نعم هناك أجندات خاصة، ونعم هناك شخصيات وأطراف تحاول استثمار الزخم الشعبي وربما في سعيها هذا ستضر بالمصلحة العامة ولكن هذه الشخصيات ستكون موجودة دائما ويجب التعامل معها كرأي آخر، ولكن ما لا يجب السماح به هو إفساد آلية التسمية وتجريدها من روحها الحقيقية، والأهم من ذلك محاولة ركوب موجة الحراك الثوري المستقل والسيطرة عليه، ويجب العودة إلى اسم موحد لمظاهرات الجمعة في الاسبوع القادم.
الجانب السلبي فيما حصل يكمن بشكل أساسي في ردة فعل بعض شخصيات “المعارضة” على نقد هيئة التفاوض التي هي في حقيقتها مؤسسة ثورية يملكها الشعب الثائر وإن حاولت أطراف داخلية وخارجية التحكم بقرارها.
هيئة التفاوض فاشلة في جميع المقاييس، وتضم بعض الشخصيات التي يمكن وصفها بالمشبوهة في أقل الحدود، ولو كان هناك استطلاع رأي حقيقي في المناطق المحررة لوصلنا إلى تصور أدق لتقييم السوريين لأداء الهيئة و بعض شخصياتها، وهو ما يجب أن يُقلق أعضاء الهيئة والمؤسسات المرتبطة بها، وليس انتقاد السوريين لها.
من حق المواطن أن يقول أن حكومته لا تمثله، ومن حق المواطن في بعض الدول حتى حرق علم بلده عندما يرى سياسة بلده تتعارض بشكل جذري مع قيمه وأحلامه، وفي غالب الأحيان هذه الدول التي يحتج مواطنوها عليها تؤمّن لهم أعلى درجات الأمن والاستقرار الاقتصادي والسياسي والخدمات، فما بالنا في سوريا الثورة، وبعد الثمن الباهظ والتضحية الفريدة التي قدمها الشعب، يتم وصف من ينتقد هيئة التفاوض بأوصاف هي أقرب لما كان ينعت به النظام المتظاهرين والمعارضين له!
ينسى البعض أن “هيئة التفاوض” وباقي المؤسسات الثورية ما كانت لتوجد لولا تضحيات السوريين، وسبب وجودها أصلا هو لخدمتهم والدفاع عن مصالحهم، وهي ليست ملكا أو حكرا على أشخاص معينين، وإن للأسف فقد نجح البعض في تطبيق أساليب “بعثية” في السيطرة على هذه المؤسسات وتحويلها إلى “ملك خاص”، وربما لذلك نرى ردات فعل حادة جدا من طرفهم أمام أي نقد.
هذه المؤسسات التي يفترض أن تكون ثورية لم ترتق إلى مستوى الحدث بعد، ومن حق السوريين أن ينتقدوا ويطالبوا بالتغيير والإصلاح، بل هو واجبهم، وعلى المتنفذين في هذه المؤسسات أن يدركوا أنهم “موظفين” فيها وأنهم تحت سقف المؤسسة والإرادة الشعبية وليس فوقها، وأنهم حتى الآن لم يحصلوا على أي شرعية: سواء عن طريق الانتخاب (وهي غير ممكنة حاليا) أو عن طريق الأداء والنتائج والتمثيل الحقيقي لمطالب الناس.
من المعيب إسقاط كل مخالف في الرأي واتهامهم بأنهم “ثوار” “غوغائيون” “مهرجون” “لا يفقهون السياسة”، من المضحك أن تقوم شخصيات دفعت بهم الثورة إلى الصدارة بتحويل صفة “الثائر” إلى شتيمة لإزدراء المخالف وتجاهل رأيه. لا شك أن عدم تقلد “سياسيي المعارضة” لمناصب رسميةٍ سابقا في بيئة سياسية صحية وناضجة يجعلهم يعتبرون أي نقد لهم أو لسياساتهم هجوما شخصيا عليهم، ولكن ـ حقيقة ـ آن الأوان أن يدركوا حجمهم الحقيقي والدور المطلوب منهم من قبل شعبهم حصراً، وأن يكفوا عن اتباع سياساتٍ مماثلةٍ للنظام في اعتبار كلّ رأي شعبي معارض أو مخالف رأياً مسيسا أو جاهلاً!
مؤسسات الثورة تضم شخصيات كثيرة نظيفة ومخلصة وثورية، وفي نفس الوقت مدركة لحقيقة ما يجري في محيطها الداخلي والإقليمي والدولي، وبالتالي لا يمكن تعميم أي حكم على المؤسسات، ولكن يجب أن تكون هناك رقابة قوية على سياسة وخطاب هذه المؤسسات وعلى سلوك الشخصيات البارزة فيها، ويجب تقويم وترشيد السياسات والشخصيات بما تقتضيه الحاجة والظروف: النصح، النقد، أو حتى التغيير، وعلى “موظفي” هذه المؤسسات تقبل الأمر والعمل وفقه.
سيحاول البعض ادعاء أن عدم إجماع الحراك الثوري على تسمية الجمعة باسم #هيئة_التفاوض_لاتمثلني سببه شرعية الهيئة وانسجام الحاضنة معها وهذا مخالف تماما للواقع، كما أن اتهام من أصر على هذه التسمية بأنه مأجور يعمل لأطراف معينة هو أيضا ضرب من الإجحاف. إن غالبية من رفض مسمى #هيئة_التفاوض_لاتمثلني رفضه انطلاقا من قناعة صادقة وحقيقية بأن هناك ملفات أكثر إلحاحا حاليا، وأن هيئة التفاوض -للأسف الشديد- لن تتغير ولن يصلح حالها بنقد شعبي وأنها كانت فاشلة في الأمس وغالب الظن أنها ستكون كذلك في الغد ما لم يحدث تغيير حقيقي (طبعا بالعموم ولا نخص جميع الأعضاء فيها).
هؤلاء يعتقدون أيضا أن إسقاط المؤسسة التي هي ملك للجميع ليس الطريق الأنجع وقد تكون هناك أطراف تدفع بذلك لأجندات ما، لأنهم يعلمون تماما الثمن الذي دفعناه للوصول إلى ما وصلنا إليه. على من تصدروا الأمر أن ينظروا إلى ما حصل في الأيام الأخيرة من زاوية أخرى بعيدة عن مصالحهم الشخصية ومشاريعهم الخاصة، وأن يدركوا أن ركوب الموجات أمده قصير، والموجات دائما تنحسر وتختفي قبل أن تصل إلى الشط.