
(1)
يعتقد البعض أنه كان على الثورة - منذ وقت مبكر - فتح قنوات التواصل المناسبة مع الروس وبناء الخطاب الصحيح للتعامل معهم ومع مصالحهم، لكن واقع الأمر يجزم أن روسيا لم تفكر يوماً بحل سياسي في سوريا. وإذا تفحصنا بعمق أكثر تاريخ روسيا وتجاربها، وإذا أخذنا بعين الاعتبار الشخصية القيصرية لبوتين وتجربته الخاصة في الشيشان وتابعنا بدقة خطابه للغرب حول القضية السورية وتركيزه على محاربة "الإرهاب السني"؛ سنصل إلى نتيجة قطعية بأن سياسة النظام الروسي في سوريا ما كانت لتتغير، لا سيما مع غياب البديل الواضح والمُطمْئن. فكما لجأ النظام الأسديّ إلى "نموذج حماة" في تعامله مع الثورة السورية باعتباره نموذجاً ناجحاً من وجهة نظره، فمن المنطقي أن تلجأ روسيا - حصرا - إلى "نموذج غروزني" الذي تتبجح علناً باعتباره نموذجاً مثالياً في التعامل مع "التمردات".
لقد قامت روسيا بجميع الخطوات العسكرية اللازمة لفرض واقع سياسي جديد في سوريا، وأسست لمسارات سياسية بديلة عن مسار جنيف، وصولاً إلى عقد مؤتمر "سوتشي" الذي تمخضت عنه فكرة ما يسمى باللجنة الدستورية، التي يخطط الروس من خلالها الحصول على شرعية "المعارضة" وانخراطها في عملية سياسية تضمن استمرار النظام السوري (وربما بشار نفسه) وتعطي الضوء الأخضر للمجتمع الدولي لفتح باب إعادة الإعمار في سوريا وتدفق الأموال لهذا الغرض، فتكون بمثابة مكافأة للنظام على إجرامه وإنجاح لمشروع روسيا في سوريا بشكل نهائي، إذ إن سوريا دون مساعدات مالية واقتصادية كبيرة ستظل "دولة فاشلة" مهددة بانفجار جديد تحت سطوة وفساد نظام الأسد والتدخل الإيراني واختراقه لقلب المجتمع السوري. وللعلم: تقدر تكلفة إعادة الإعمار في سوريا بين 250 مليار دولار أمريكي إلى حوالي التريليون من الدولارات؛ لا يملك النظام منها أي نسبة ولا تستطيع روسيا المساهمة فيها، حتى تلك الدول التي تدعم العمل العسكري الروسي في سوريا سرا لن تتمكن من دعم عملية إعادة الإعمار إلا بضوء أخضرَ دولي ووجود حل سياسي بشرعية سورية ودولية.
(2)
مسار اللجنة الدستورية سيؤدي دون أدنى شك إلى إنهاء الثورة عسكريا، وترويضها سياسيا بشكل كامل، وتثبيت حكم الأسد. لذلك يتبادر إلى ذهن البعض سؤال جوهري: ما هي مصلحة الثورة و (السوريين) في مشاركة من يدعون تمثيل الثورة في اللجنة الدستورية المزعومة؟
الجواب: ليس هناك أي مصلحة لا جزئية ولا كلية، لا على المدى القريب ولا البعيد، وليس هناك أي احتمال لتحقيق أي مكسب (إلا اذا كان هناك من يثق بالروس كضامن والنظام كمنفذ)، أو إذا اعتبرنا أن تقلد بعض المحسوبين على "المعارضة" مناصب في حكومة مستقبلية تحت حكم النظام أمراً إيجابياً، أو سلمنا بأن مثل هذا "الإنجاز" هو سقف الثورة الحالي وأكثر ما يمكن تحقيقه في ظل "الواقعية" السياسية الجديدة.
هناك مشكلة جوهرية في كينونة وتركيبة "المعارضة" السياسية والأطراف التي تدير المسار السياسي وما يسمى بالعملية التفاوضية باسم الثورة: معظم هؤلاء ليسوا ثواراً أصلا بل معارضين تقليديين في أفضل الحالات تحت سقف واقع متوهم، وهم عاجزون عن ممارسة عملهم (أو حتى تخيله) خارج إطار التفاهمات الإقليمية والدولية (مهما كانت هشة)، ولم يفهموا أو يدركوا يوما حقيقة ومعنى أن يكون المرء ثائراً من أجل حريته وكرامته ضد نظام مجرم. لقد أغرقتهم مفاهيم "الواقعية" و "الحنكة" السياسية المغلوطة، وأصبحوا جزءا من منظومة يفترض أنهم ثاروا ضدها يوما لأنها حرمتهم وشعبهم من حقوقهم وحريتهم (ولا نعني النظام الأسدي).
علينا أن نتساءل ونجيب بكل صراحة ووضوح: ما شكل الدستور الذي سيتم كتابته تحت رعاية المحتل الروسي؟! ما هي مرجعية وشرعية الأسماء التي يتم تقديمها باسم "المعارضة" السياسية، وكيف تم التوصل إليها (للتوضيح: رضى أطراف إقليمية ودولية عن أشخاص أو عن أدائهم لا يعطي الشرعية)؟ ما هي خبرة هذه الأسماء في كتابة الدساتير؟ باسم من تفاوض هذه "المعارضة"؟ ما هي أوراق هذه "المعارضة" للتفاوض وفق تركيبتها الحالية وعلاقتها بالداخل (أو انعدامها) وخطابها الانهزامي؟ هل يملك هؤلاء "السياسيون" خارطة طريق واضحة المعالم والنتائج لما يقومون به؟ وهل يصارحون شعبهم بحقيقة ما يجري؟
السؤال الأهم: هل فعلا يظن هؤلاء أن هذا المسار سيؤدي إلى كتابة دستور يحمي حقوق السوريين ويضعف من صلاحيات وسلطات النظام!، ويؤمّن بيئة آمنة لعودة المهجرين وحفظ أملاكهم! بل الأهم من ذلك: من سيجبر النظام على تطبيق هذا الدستور المُفتَرض (إذ إن الدستور الحالي لسوريا ليس سيئاً "بالكلية" لو طُبق)! وهل من بين هؤلاء "المعارضين" (باستثناء المأجورين منهم) من سيأمن على نفسه الذهاب إلى دمشق ليعمل ضمن حكومة الأسد المستقبلية وتحت مراقبة أجهزته الأمنية؟
(3)
منطق هؤلاء "السياسيين" يعتمد على فكرتين أساسيتين: الأولى أن ما يجرى في سوريا تفاهم دولي وإقليمي، و"الحنكة" السياسية و"الواقعية" تقتضي التماهيَ مع هذا التفاهم. أما النقطة الثانية؛ أنه ليس أمامنا خيار سوى مسار اللجنة الدستورية، ومن لم يعجبه هذا المسار: "فليطرح خيارا آخر!!!". طبعا الكلام السابق مبني على مغالطات كبيرة ومنطق هزيل ومردود على أصحابه، وافتقار لأدنى درجات الرغبة في التغيير والروح الثورية (التي يعتبرها بعضهم أقرب للشتيمة والغوغائية).
أما هذا التفاهم الدولي والإقليمي الذي يتم التعامل معه كقدر محتوم لا مفر منه؛ فما يجب إدراكه هو أن المجتمع الدولي والإقليمي لم يصل بعدُ إلى حل أو تفاهم نهائي حول سوريا (وإن كان هناك - حاليا - قبول أكبر لاستمرار النظام بصيغة ما مع تعديلات تجميلية نظرا لعدم وجود بديل حقيقي ومقبول)، إلا أن تعقيد القضية السورية جعل من الدول تسلك سياسيات مختلفة مع حلفاء مختلفين حسب كل منطقة من سوريا، وفي العموم لا نزال بعيدين عن الحل الشامل، إلا أن زخم السياسة الروسية على الأرض وفي الأروقة الدبلوماسية بدأت تؤتي أكلها، لا سيما وسط غياب أي نشاط سياسي مؤثر ومعاكس من قبل الثورة.
حتى وإن كان هناك توجه دولي نحو حل أو تصور ضد مصلحتنا كثورة وسوريين، فأقل ما يمكننا القيام به هو الرفض وأن نقول "لا"، والأهم من ذلك أن نسعى لفرض واقع على الأرض، عسكريا واجتماعيا (وهذا جانب بالغ الأهمية) يعرقل أي حل لا يحقق الحد الأدنى من مصالحنا. لقد تحول "القرار الدولي" في خطاب وعقلية أدعياء السياسة في الثورة إلى نبوءة تحقق ذاتها، إلى شماعة لفشلهم وعجزهم عن القيام أو تقديم أي شيء خارج الروتين البيروقراطي لعملهم من حضور اجتماعات ومؤتمرات ومن ثم التسويق لما يقومون به وتبريره وقمع من يخالفهم، إلا أن الحقيقة خلاف ما يظنون، والواقعية الجديدة التي نحتاجها كسوريين وكثورة ممكنة رغم صعوبتها البالغة، ولكنها تحتاج إلى عمل دؤوب وتضحيات كبيرة، واقتحام ميادين خارج "منطقة الراحة" الخاصة بهم، وهذا ما لا يريدون القيام به.
(4)
أما البديل عن "اللجنة الدستورية": فلم أسمع بشخص يُقدَّم له سُم فيشربه طوعا، بل ويستنفذ الجهد في شربه وتبرير ذلك أمام الناس، بل ويدعوهم إليه! البديل موجود ومتاح ولكنه ليس جاهزا ويحتاج للعمل من قبل الجميع لأنه لا خيار غيره.
البديل هو التمسك بالأرض المحررة في الشمال السوري تحت سلطة مدنية موحدة وجيش ثوري تذوب فيه الفصائل بشكل نهائي كخيار وحيد للاستمرار، وأن نسعى لبناء البيئة العسكرية والسياسية والشعبية اللازمة لنجاح الأمر، وتوسيع رقعة هذا المشروع في المستقبل القريب لتضم شرق سوريا بأكمله ضمن إطار إقليمي-دولي يحفظ الحد الأدنى من مصالحنا كسوريين، ويراعي مصالح الدول الأقرب منا.
خطابنا يجب أن يكون رفضا مطلقا لأي عملية تشاركية مع النظام المجرم وقوات الاحتلال، لأننا كسوريين نرفض الاحتلال الأجنبي ونرفض أن نكون تحت حكم نظام عميل استقدم قوات الاحتلال وارتكب جرائم حرب ضد شعبنا، لأننا لا نستطيع أن نعيش تحت سلطة هؤلاء المجرمين حفاظا على حياتنا وحياة أهلنا والأجيال القادمة، إذ إن ملايين السوريين داخل وخارج سوريا يحتاجون ملجأ آمناً لهم يمكنهم العيش فيه بحرية وكرامة، يتمتّعون فيه بحقوقهم الكاملة كمواطنين وبشر، وهذا لن يتحقق تحت حكم الاحتلال الروسي-الإيراني وذيلهم النظام الأسدي.
سوريا تقسمت - لمن لم يدرك ذلك بعد - وقوات الاحتلال الروسي والإيراني صنعت مناطق نفوذها الخاصة وأعطت نظام الأسد "سوريا المفيدة" المتجانسة اجتماعيا وسياسيا - واهمين - حسب تصورهم. هدفنا في المستقبل القريب هو إيجاد ملجأ للسوريين في سوريا خارج سيطرة النظام والاحتلال، والانطلاق من هذه المناطق من خلال العمل العسكري والأمني والسياسي والشعبيّ لبناء نموذج جديد وإعادة توحيد سوريا.
(5)
هذا الإطار الإقليمي-الدولي الذي نحتاجه في شمال وشرق سوريا يعتمد بشكل أساسي على عودة العلاقات التركية-الأمريكية وحصول تفاهم في حدوده الدنيا بين الطرفين حول الملف السوري بالعموم وشمال سوريا وشرقها بالخصوص، وهو أمر حيوي وشبه حاسم في تفكيك منظومة أستانا-سوتشي التي تتحمل الجزء الأكبر من المصائب التي نعيشها اليوم (دون التغاضي عن سوء تعامل وتعاطي الفصائل و "المعارضة" السياسية معها). لا شك أن السياسة الغربية تجاه تركيا في السنوات الأخيرة كان لها الدور الأساسي في إحداث تحول - ربما تاريخي - في سياق العلاقات الخارجية لتركيا، إلا أن هذا التحول ليس دائما، والطرف التركي يعلم تماما أن روسيا ليست طرفا يمكن بناء حلف طويل الأمد معه (وهناك تاريخ طويل يؤكد ذلك) لا سيما أن تجربة السنوات الأخيرة أثبتت أن التزام الروس بالاتفاقيات هزيل إلى أبعد الحدود، وتركيا تعلم أن روسيا ستحشرها تدريجيا في زاوية ضيقة بعد أن تجردها من أكبر قدر ممكن من أوراقها في سوريا لتجبرها على القبول بحل هزلي لا يحقق طموحاتها.
تركيا كانت وما زالت الحليف الأهم للثورة، وهي عمق السوريين الإستراتيجي كما أن سوريا تشكّل عمقاً إستراتيجياً لتركيا من الناحية الجيوسياسية والديموغرافية والاقتصادية. الآن، وأكثر من أي وقت مضى ورغم صعوبة الأمر، يجب على الثورة أن تعيد بناء العلاقة مع تركيا استنادا إلى المصالح المشتركة (وهي كثيرة) ومن خلال منظور طويل الأمد. تركيا تعيش تحت تهديد كبير، داخلي وخارجي، وفي واقع الأمر ليس لديها حليف حقيقي يُعتمد عليه من القوى الإقليمية أو الدولية (التي تسود معها علاقة التنافس والحرب الباردة)، وهنا يأتي دور ظهور قيادة ثورية سياسية-عسكرية ذات شرعية حقيقية منبثقة عن العمق الاستراتيجي الحقيقي للثورة وهو الداخل السوري، قادرة على طرح رؤى جريئة مختلفة مبنيّة على مصالح حقيقية مشتركة مع تركيا، والأهم من ذلك هو توفير الأدوات القادرة على تنفيذ هذه الرؤى والمقترحات.
(6)
تحقيق ملجأ (وطن) للسوريين الأحرار داخل سوريا يشمل شمال وشرق البلاد سيكون له قبول عند أطراف إقليمية ودولية (وهناك تحركات على الأرض في هذا الاتجاه) إذا تم طرحه ضمن السياق الصحيح وتم توفير الأدوات اللازمة لتحقيقه، والأهم من ذلك هو أن يتم طرحه من قبل طرف سوري ذي مصداقية وشرعية. يجب التوقف عن الحديث بلغة الإنسانية والقانون الدولي، والحديث بلغة المصالح وباسم إرادة الشعب الحقيقية، وما يريده هذا الشعب فعلا وما يحقق مصالحه. الحفاظ على حياة المدنيين وكرامتهم لا يتم من خلال عمليات المصالحة مع النظام المجرم بضمانة روسية، ولا بتسليم السلاح الثقيل ولا إبقاء المدنيين تحت رحمة نظام أثبت أنه أقرب للحيوانات في سلوكه، إنقاذ المدنيين يكون بتأمين ملجأ لهم وبيئة آمنة، وهذا يجب أن يكون هدف الثورة في المرحلة القادمة. لا بد من فرض واقع جديد داخل سوريا وبناء الدعم الإقليمي والدولي له بأي وسيلة ممكنة.
إن الأجسام التفاوضية التي تصدرت أمر الثورة السياسي لا تملك أي قدرة على التفاوض، وقد أثقلتها شخصيات هلامية لزجة تبحث عن دورها الخاص ومصلحتها الشخصية، وقد آن الأوان لإسقاط هذه الشخصيات أو الأجسام بأكملها. الثورة تحتاج لإفراز قيادات جديدة وفتح المجال أمام "جيل الثورة" الحقيقي، وجمع رأسمال الثورة العسكري والسياسي والشعبي في مشروع واحد وواجهة واحدة، وإن تطلب هذا قيام ثورة داخل الثورة نفسها، لأن معظم الشخصيات "القيادية" الحالية لم تعد قابلة للإصلاح أو التطوير، والأجسام الثورية باتت تحتاج إلى عملية إعادة إنتاج ضمن أطر جديدة مختلفة جذريا عما سبق.
سيقول البعض إن هذا مشروع مستحيل أو جرت محاولات سابقة لتحقيقه لم تنجح، لكن يجب علينا أن ندرك يقينا ألا خيار آخر باق أمامنا، وأن تحقيق هذا الحل هو من باب الضرورة الوجودية وليس الترف أو الطموح أو المثالية، فمن المستحيل الاستمرار بفصائل متفرقة وقيادات سياسية تائهة لن يتم أخذها على محمل الجدية، وغير قادرة على القيام بواجب الساعة، وعلى أصحاب المشاريع الشخصية أو الفئوية أن يدركوا أنه حتى نجاح مشاريعهم هذه يتطلب نجاح المشروع الأكبر للثورة. يجب تجميد مشاركة أي طرف يمثل الثورة (أو يدعي ذلك) في مسار "اللجنة الدستورية" ويجب تركيز الجهود كلها في خطاب ورؤية جديدة ومشروع حقيقي يخدم البلد وأهلها بدلا من الجري وراء السراب في ظل مشهدٍ تُباد فيه سوريا.